أیها القاریء:
لقد وصلنا- فی حدیثنا هذا- إلی موضع حساس جداًّ، حساس تاریخیاً و دینیاً و عقائدیاً، و لا أعلم ما یکون صدی هذه الجملات التی سأذکرها هنا؟!
و لا أعلم ردود الفعل التی تنشأ من مطالعة هذه الکلمات؟!
و لا أعرف نوعیة الحکم الذی سیحکم به القارئ علیَّ؟!
و ما هی التهم التی سیوجّهها إلیَّ؟
الطائفیة؟ التفرقة؟ إثارة الفتنه؟ المسّ بکرامة الصحابة؟ و غیرها من الکلمات التی سأحظی بها من حضرات المطالعین!!
و لعلک- أیها القاریء- لا ترضی بهذه الحقائق، و تظنها کذباً و افتراءً ثم تحکم علیَّ حکماً غیابیاً بما جاد به لسانک و قلمک.
لا یهمنی هذا بمقدار ما یهمنی أن تعلم أننی لا أذکر لک- هنا- شیئاً من المصادر الشیعیة، و لا من کتب الإمامیة و إنما أذکر لک بعض القضایا من مصادر سُنیة بحتة محضة فقط، معتبرة عند أهل السنة و الجماعة.
فإن کانت هذه الأخبار صحیحة و صادقة فنعم المطلوب.
و إن کانت سقیمة أی غیر صحیحة فلیست المسؤولیة علیَّ.
و إنما المسؤولیة علی تلک المصادر.
و بعبارة أخری: لیس الذنب ذنبی، بل الذنب ذنب التاریخ الذی ذکر
هذه الوقائع
و لو لا ثبوتها عند علماء السنة القدامی لما ذکروها فی صحاحهم المعتبرة عندهم، المعتمدة لدیهم.
أیها القاریء:
أعود لأقول کلمتی الأخیرة، ثم أدخل فی صمیم الموضوع:
أقول: إننی أذکر لک المصادر و المدارک التاریخیة، فا لأفضل أن تراجعها کی تتأکد من صحة القول و النقل.
و بعد مطالعة هذا الفصل لک الحریة فی اختیار موقفک تجاه هذه الأحداث و تبقی أنت و ضمیرک الحی، و وجدانک- و هو الذی تجده فی قرارة نفسک- و دیانتک التی أنت معتنقها، و إیمانک بالله الذی أنت لاقیه، و الحق الذی هو فوق العاطفة و المیول و التقالید.
و کم یؤسفنی أنی لا أملک حریة القلم و البیان لأسجل علی هذه الصفحات الأحداث المؤلمة، و الظروف العصیبة، و العواصف الزعازع، و الساعات الحرجة التی مرت بآل رسول الله و عترته الطیبة فی أقل من أسبوع من بعد وفاته (صلی الله علیه و آله و سلم).
نعم.. الحریة ممنوحة لکل أحد و لکل فئة إلا لآل رسولالله!!
و حریة الصحافة المتعارفة فی زماننا، و حریة الدفاع المسموح بها فی جمیع المحاکم فی العالم، و حریة الرأی و الفکر المغترف بها فی الدول، هذه الحریات بکافة أنواعها موجودة، و لکن التحدث عن مصائب آل الرسول و تسجیل آلامهم و مآسیهم یعتبر ذنباً لا یغفر..
و الآن إقرأ مایلی:
ذکر الأستاذ الفذ عبد الفتاح عبد المقصود فی کتابه (الإمام علیّ بن أبیطالب) ص 225:
(… و اجتمعت جموعهم- آونة فی الخفاء و آخری علی ملاء- یدعون إلی ابن أبیطالب لأنهم رأوه أولی الناس بأن یلی أمور الناس، ثم تألبوا حول داره یهتفون باسمه و یدعونه أن یخرج إلیهم لیردوا علیه تراثه المسلوب… فإذا المسلمون أمام هذا الحدث محالف أو نصیر، و إذا بالمدینة حزبان، و إذا بالوحدة المرجوَّة شقان أوشکا علی انفصال، ثم لا یعرف غیر الله ما سوف تؤول إلیه بعد هذا الحال… فهلاّ کان علی- کابن عبادة- حریّاً فی نظر ابن الخطاب بالقتل حتی لا تکون فتنة و لا یکون انقسام؟!
کان هذا أولی بعنف عمر إلی جانب غیرته علی وحدة الإسلام، و به تحدّث الناس و لهجت الألسن کاشفة عن خلجات خواطر جرت فیها الظنون مجری الیقین، فما کان لرجل أن یجزم أو یعلم سریرة ابن الخطاب، و لکنهم جمیعاً ساروا وراء الخیال، و لهم سند مما عرف عن الرجل دائماً من عنف و من دفعات و لعل فیهم مّن سبق بذهنه الحوادث علی متن الاستقراء، فرأی بعین الخیال قبل رأی العیون، ثبات علیّ أمام و عید عمر لو تقدم هذا منه یطلب رضاءه و إقراره لأبیبکر بحقه فی الخلافة، و لعله تمادی قلیلاً فی تصور نتائج هذا الموقف و تخیّل عقباه فعاد بنتیجة لازمة لا معدّی عنها، هی خروج عمر عن الجادة، و أخذ هذا المخالف العنید بالعنف و الشدَّة!
و کذلک سبقت الشائعات خطوات ابن الخطاب ذلک النهار، و هو یسیر فی جمع من صحبه و معاونیه إلی دار فاطمة، و فی باله أن یحمل ابن عمّ رسولالله- إن طوعاً و إن کرهاً- علی إقرار ما أباه حتی الآن.
و تحدث أناس بأن السیف سیکون وحده متن الطاعة!… و تحدث آخرون بإن السیف سوف یلقی السیف!..
ثم تحدث غیر هؤلاء و هؤلاء بأن «النار» هی الوسیلة المثلی إلی حفظ الوحدة و إلی (الرضا) و الإقرار!… و هل علی ألسنة الناس عقال یمنعها أن
تروی قصة حطب أمر به ابن الخطاب فأحاط بدار فاطمة- و فیها علیّ و صحبه- لیکون عدة الإقناع أو عدة الإیقاع؟….
علی أن مثل الأحادیث جمیعها و معها الخطط المدبرة أو المرتجلة کانت کمثل الزبد، أسرع إلی ذهاب و معها دفعة ابن الخطاب!…
أقبل الرجل، محنقاً مندلع الثورة علی دار علیّ و قد ظاهر معاونوه و من جاء بهم فاقتحموه أو أوشکوا علی اقتحام ، فإذا وجه کوجه رسولالله یبدو بالباب حائلاً من حزن، علی قسماته خطوط آلام، و فی عینیه لمعات دمع، و فوق جبینه عبسة غضب فائر و حنق ثائر…
و توقف عمر من خشیة و راحت دفعته شعاعاً. و توقف خلفه- أمام الباب- صحبه الذین جاء بهم، إذ رأوا حیالهم صورة الرسول تطالعهم من خلال وجه حبیبته الزهراء و غضوا الأبصار من خزی أو من استحیاء، ثم ولت عنهم عزمات القلوب، و هم یشهدون فاطمة تتحرک کالخیال، وئیداً وئیداً بخطواتها المحزونة الثکلی، فتقترب من ناحیة قبر أبیها… و شخصت منهم الأنظار و أرهفت الأسماع إلیها، و هی ترفع صوتها الرقیق الحزین النبرات، تهتف بمحمد الثاوی بقربها، تنادیه باکیة مریرة البکاء:
یا أبت رسولالله!… یا أبت رسولالله!…
فکأنما زلزلت الأرض تحت هذا الجمع الباغی، من رهبة النداء…
و راحت الزهراء و هی تستقبل المثوی الطاهر، تستنجد بهذا الغائب الحاضر: «یا أبت یا رسولالله!… ماذا لقینا بعدک من ابن الخطاب، و ابن أبی قحافة!؟…».فما ترکت کلماتها إلاّ قلوباً صدعها الحزن، و عیوناً جرت دمعاً، و رجالاً و دّوا لو استطاعوا أن یشقوا مواطئ أقدامهم لیذهبوا فی طوایا الثری مغیّبین…) الی آخر کلامه.
إقتطفنا هذه الجملات من کتاب الأستاذ عبدالفتاح الکاتب المصری المعاصر.
و أما ما ذکره المؤرخون القدامی، و المحدّثون المتقدمون فهاک بعض أقوالهم حول الموضوع:
فی العقد الفرید ج 2 ص 250 و تاریخ أبیالفداء ج 1 ص 156 و أعلام النساء ج 3 ص 1207: «و بعث إلیهم أبوبکر عمر بن الخطاب و قال لهم: فإن أبوا فقاتلهم. و أقبل عمر بقبس من نار علی أن یضرم علیهم الدار فلقیته فاطمة فقالت: یا بن الخطاب أجئت لتحرق دارنا؟
قال: نعم، أو تدخلوا فیما دخل فیه الأمة».
و فی تاریخ الطبری ج 3 ص 198 و الإمامة و السیاسیة ج 1 ص 13 و شرح ابن أبیالحدید ج 1 ص 134: دعا بالحطب و قال: و الله لتحرقن علیکم أو لتخرجنّ إلی البیعة-أو: لتخرجنّ إلی البیعة أو لأ حرقنها علی من فیها- فیقال للرجل: إن فیها فاطمة فیقول: و إن!!
و ذکر ابن قتیبة(1) فی (الإمامة والسیاسة) ص 19: کیف کانت بیعة علیّ بن أبیطالب (کرم الله وجهه).
قال: و إن أبابکر تفقد قوماً تخلفوا عن بیعته عند علیّ (کرم اللهوجهه) فبعث إلیهم عمر، فجاء فناداهم و هم فی دار علیّ، فأبوا أن یخرجوا، فدعا بالحطب و قال: والذی نفس عمر بیده لتخرجن أو لأحرقنها علی من فیها
فقیل له: یا أباحفص إن فیها فاطمة!
قال: و إن!
فخرجوا فبایعوا إلاّ علیاً فإنه زعم أنه قال: حلفت أن لا أخرج و لا أضع ثوبی(2) علی عاتقی حتی أجمع القرآن.
فوقفت فاطمة (رضی الله عنها) علی بابها و قالت: لا عهد لی بقوم حضروا أسوأ محضر منکم، ترکتم رسولالله (صلی الله علیه و آله و سلم) جنازة بین أیدینا و قطعتم أمرکم بینکم، لم تستأمرونا و لم تردوا(3) لنا حقاً؟!
و یقول محمد حافظ إبراهیم (شاعر النیل) فی قصیدته العمریة:
و قولة لعلیّ قالها عمر++
أکرم بسامعها أعظم بملقیها
حرّقت دارک لا بقی علیک بها++
إن لم تبایع و بنت المصطفی فیها
ما کان غیر أبیحفصٍ یفوه بها++
أمام فارس عدنان و حامیها
و ذکر مصطفی بک الدمیاطی فی شرحه علی هذه القصیدة ص 38: و فی روایة لابن جریر الطبری قال: حدثنا جریر عن مغیرة عن زیاد بن کلیب قال: أتی عمر بن الخطاب منزل علیَّ و به طلحة و الزبیر و رجال من المهاجرین فقال: و الله لأحرقن علیکم أو لتخرجن إلی البیعة فخرج علیه الزبیر معلناً بالسیف فسقط السیف من یده، فوثبوا علیه فأخذوه…. الی آخر کلامه.
و قد روی الشهرستانی(4) عن النّظام قال: إن عمر ضرب بطن فاطمة
یوم البیعة حتی ألقت الجنین (المحسن) من بطنها، و کان یصیح: أحرقوا دارها بمن فیها. وما کان فی الدار غیر علیّ و فاطمة و الحسن و الحسین(5)
و روی مثل ذلک البلاذری فی (أنساب الأشراف) ج 1 ص 404، و الصفدی الشافعی فی کتاب الوافی بالوفیات ج 5 ص 347.
و فی لسان المیزان لابن حجر العسقلانی ج 1 ص 268: ان عمر رفس فاطمه فأسقطت بمحسن.
وذکر مثله الحافظ الذهبی فی میزان الاعتدال ج 1 ص 139.
و ذکر ابن جذابة- أو خرذاذبة-: قال زید بن أسلم: کنت ممن حمل الحطب مع عمر إلی باب فاطمة حین امتنع علیّ و أصحابه عن البیعة، فقال عمر لفاطمة: أخرجی من البیت أو لأ حرقنه و مَن فیه!!!
قال: فی البیت علیّ و فاطمة و الحسن و الحسین و جماعة من أصحاب النبی.
فقالت فاطمة: أفتحرق علیَّ وُلدی؟
فقال: أی والله أو لیخرجنَّ ولیبایعنَّ!!
هذا ما ظفرت به من المصادر المذکورة فی کتب أهل السنة و الجماعة، و لعل غیری یجد أکثر من هذه المصادر فی کتب التواریخ.
بعد استعراض هذه النصوص التاریخیة انکشف لنا موقف بعض المسلمین تجاه أهل بیت رسولالله (صلی الله علیه و آله و سلم) و اتضح لنا أن بعض الأفراد لم یراعوا حرمة السیدة فاطمة الزهراء و لا حرمة بیتها، و لا راقبوا کرامة زوجها أمیرالمؤمنین علیّ(علیه السلام) و لا کرامة ولدیها: الحسن و الحسین (علیهماالسلام) و لم یحفظوا فیهم حرمة الرسول الأعظم.
فقد عرفنا من هذه النصوص أن العصابة جاءت لإخراج الإمام علیّ (علیه السلام) من بیته لیبایع أبابکر، و قد سمعنا منهم التهدید بإحراق البیت و کل من فیه من آلرسولالله (صلی الله علیه و آله و سلم).
ما کانت السیدة فاطمة الزهراء تنتظر أن تری فی حیاتها یوماً کذلک الیوم، و مأساة کتلک المأساة، و إن کان أبوها الرسول قد أخبرها بذلک إجمالاً أو تفصیلاً، و لکن السماع شیء و الرؤیة شیء آخر، و تأثیر المصیبة یختلف سماعاً و رؤیة.
إن کانت السیدة فاطمة قد سمعت من أبیها الرسول أن الأمور سوف تنقلب علیها، و أن الأحقاد سوف تظهر بعد وفاته (صلی الله علیه و آله و سلم) فإنها قد شاهدت بعینها تلک الأحداث فقد هجم القوم علی عرینها لیخرجوا زوجها من ذلک البیت الذی ما کان الرسول یدخله إلا بعد الاستئذان من فاطمة.
لا تستطیع الزهراء أن تسکت و تقف موقف المتفرجة.
و آیة عائلة تسکت أو تهدأ إذا رأت عصابة ترید الهجوم علی بیتها لإخراج رئیس العائلة؟
فالخوف و الذعر و الاضطراب یبلغ أشدّه، و یسلب من العائلة کلّ استقرار و هدوء،فا لأطفال یصرخون باکین من هول الموقف، و الأصوات ترتفع فی تلک اللحظات الرهیبة.
کانت السیدة فاطمة- قبل هجوم القوم- خلف الباب و قد عصّبت رأسها بعصابة، و لم یکن علیها خمار، فلما هجم القوم لاذت السیدة فاطمة خلف الباب لتستر نفسها عن أولئک الرجال، فعصروها عصرة شدیدة، و کانت حاملاً فی الشهر السادس من حملها.
و هنا صرخت السیدة صرخة من شدة الألم، لأن جنینها قُتل من
صدمة الباب، و لا تسأل عن مسمار الباب الذی نبت فی صدرها بسبب عصرة الباب. و فی تلک اللحظات کان القوم قد ألقوا القبض علی الإمام علی و هم یریدون إخراجه من البیت، و هنا حالت السیدة فاطمة بین القوم و بین أن یُخرجوا زوجها بالرغم من الألم الشدید و اضطراب الجنین فی أحشائها.
و هنا صدر الأمر بضرب فاطمة حبیبة رسولالله و عزیزته.
إن أولاد فاطمة الزهراء الذین شاهدوا تلک المعرکة هکذا یقولون:
لقد خاطب الإمام الحسن (علیهالسلام) المغیرة بن شعبة فی مجلس معاویة بقوله: «و أنت ضربت فاطمة بنت رسولالله حتی أدمیتها، و ألقت ما فی بطنها، استذلالاً منک لرسولالله، و مخالفة منک لأمره، و انتهاکاً لحرمته، و قد قال لها رسولالله: «أنت سیدة نساء أهل الجنة» و الله مصیّرک إلی النار… الی آخر کلامه(6)
و فی کتاب سلیم بن قیس «… فأقبل عمر و ضرب الباب و نادی:
یابن ابیطالب إفتح الباب.
فقالت فاطمه (علیهاالسلام): یا عمر مالنا و لک، لا تدعنا و ما نحن فیه؟
فقال:افتحی الباب، و إلا أحرقنا علیکم!
فقالت (علیهاالسلام):یاعمر أما تتقی الله (عز و جل) تدخل علی بیتی و تهجم علی داری؟!
فأبی أن ینصرف، ثم دعی عمر بالنار فاضرمها فی الباب،فاحرق الباب ثم دفعه عمر،فاستقبلته فاطمه (علیهاالسلام) و صاحت: یا أبتا یا رسولالله!!
فرفع عمرالسیف- و هو فی غمده- فوجابه جنبها، فصرخت.
فرفع السوط فضرب به ذراعها، فصاحت: یا أبتاه لبئس ما خلفک أبوبکر و عمر.
فوثب علی بن أبیطالب (علیهالسلام)فأخذ بتلابیب عمر(7) ثم هزه فصرعه و وجا أنفه و رقبته(8) و هم بقتله، فذکر قول رسولالله (صلی الله علیه و آله و سلم) و ما أوصاه من الصبر و الطاعه فقال: «والذی کرم محمداً بالنبوه- یا بن صحاک!- لو لا کتاب من الله سبق،و عهدٌ عهد الی رسولالله لعلمت انک لا تدخل بیتی…
فأرسل عمریستغیث، فأقبل الناس حتی دخلو الدار، فکاثروه(9) و القو فی عنقه حبلاً.
فحالت بینهم و بینه فاطمه (علیهاالسلام) عند باب البیت، فضربها قنفذ بالسوط، فماتت- حین ماتت- و إن فی عضدها کمثل الدملج(10) من ضربته، فالجأها إلی عضادة بیتها و دفعها، فکسر ضلعاً من جنبها، فألقت جنیناً من بطنها.
فلم تزل صاحبه فراش، حتی ماتت من ذلک شهیده).
و فی کتاب ارشاد القلوب: عن الزهراء (علیهاالسلام) قالت: «… فجمعوا الحطب علی الباب و اتو بالنار لیحرقوه و یحرقونا، فوقفت بعضاده الباب، و ناشدتهم الله و بأبی، ان یکفوا عنا،فأخذ عمرالسوط من ید قنفذ
فضرب به عضدی حتی صارکالدملج، و رکل الباب برجله فرده علی و أنا حامل، فسقطت لوجهی و النار تسعر، فضربنی بیده حتی انتثر قرطی من اذنی، و جاء نی المخاض، فاسقطت محسناً، بغیر جرم».
و قال الإمام الصادق (علیهالسلام)… و کان سبب وفاتها أن قنفذاً مولی عمر لکزها بنعل السیف بأمره، فأسقطت محسناً، و مرضت من ذلک مرضاً شدیداً… الی آخر کلامه (علیهالسلام).
و هکذا یستفاد أن أکثر من واحد ضرب بنت رسولالله (صلی الله علیه و آله و سلم) و ان الضرب کان بالسوط تاره و بالسیف- و هو فی غمده- تاره اخری، مما سبّب إجهاض الجنین.
و تری الشعراء یتألّمون من هذه المأساة المروّعة و یتحدثون عنها.
یقول أحدهم:
فأسقطت بنت الهدی و احَزَنا++
جنینها ذاک المسمّی محسنا
و یقول الآخر:
و الداخلین علی البتولة بیتها++
و المسقطین لها أعزَّ جنین
و یقول الآخر:
أو تدری ما صدر فاطم ما المسما++
ر ما حال ضلعها المکسور
ما سقوط الجنین؟ ما حمرة++
العین و ما بال قرطها المنثور
و یقول الآخر:
و لست أدری خبر المسمار++
سل صدرها خزانة الأسرار
استنجدت السیدة فاطمة بخادمتها فضة و صاحت :یا فضة! إلیک فخذینی و إلی صدرک فاسندینی، و الله لقد قتلوا ما فی أحشائی!!
أسرعت فضة واحتضنت السیدة فاطمة لتحملها إلی الحجرة، و لکن الجنین سقط قبل وصول الزهراء إلی الحجرة.
و المعروف ان آلام الإ جهاض أشد من آلام الولادة، فکانت حبیبة رسولالله فاطمة تئن أنیناً یوجع کل قلب، و یُبکی کل عین، فالطفل فارق الحیاة و أمه تنظر إلیه.
و لکن القوم لم یعیروا اهتماماً بما جری علی سیدة النساء و ابنة سید الأنبیاء، بل أخذوا زوجها العظیم، بعد أن نزعوا عنه السلاح، و ترکوه أعزلاً و ألقوا حبل سیفه فی رقبته یقودونه من بیته إلی المسجد بکل عنف و قسوة لیبایعِ(11)
هنا یقف القلم عن الجری، و یخرس اللسان عن بیان و شرح تلک اللحظات التی مرّت بذلک الرجل الغیور، صاحب الحمیة و الإباء.
ذلک البطل الإسلامی المجاهد العظیم.
ذلک الإمام الذی کانت الزهراء أغلی عنده من کل غال و نفیس و أعز من کل موجود، و أشرف من کل إنسان بعد الرسول.
و ینظر سلمان إلی ذلک المنظر المذهل و یقول: أیُصنع ذا بهذا؟ و الله لو أقسم علی الله لانطبقت ذه علی ذهِ(12)
قف بنا لنبکی علی علی، و هو یسمع صرخات زوجته فاطمة!! و یسمع أصوات ولدیه و بنتیه الصغار و هم یولولون، ینظرون إلی أمهم تارة و إلی أبیهم أخری، لا یدرون ما یصنعون؟ هل یلتفون حول أمهم و یسمعون أنینها من صدمة الباب و سقط الجنین؟
أو یرافقون أباهم و قد ازدحم حوله الرجال یدفعونه فی ظهره و یقاومون امتناعه.
حیرة و أیه حیره؟!
یرید علیّ أن یسعف زوجته ینظر إلیها و هی فی تلک الحالة، و لکن حبل السیف فی رقبته، و لکن الرجال یدافعونه، و صرخات الأطفال قد سلبته کل قرار.
ینظر یمیناً و شمالاً، ینادی: واحمزتاه، و لا حمزة لی الیوم، وا جعفراه و لا جعفر لی الیوم!!
واخیراً.. اخرجوا خلیفة رسول الله من الدار، بتلک الصورة الفظیعة، المقرونة بالاکراه و الاهانة.
ارتفعت أصوات النساء- الواقفات فی الطریق- بالبکاء و العویل، و ما الفائدة من صیاح النساء أمام القوة؟ و هل تلین تلک القلوب من صرخات النساء و صیاحهن.فتحت السیدة فاطمة عینها حینذاک، و لعلها أفاقت علی صراخ أطفالها المذعورین!و قالت: یا فضة! أین علیّ؟!!
قالت- و هی باکیة-: أخذوه للمسجد!!
نسیت فاطمة آلامها، و قامت و کلها آلام و أوجاع، و لکنها استعادت شجاعتها لهول الموقف و لذلک الظرف العصیب.
فلنترک السیدة فاطمة تستعد للخروج لإنقاذ زوجها من تلک الورطة
و لتدارک ذلک الموقف، و لنذهب إلی المسجد النبوی لنری ما جری علی الإمام علیّ؟؟
نعود إلی ما ذکره ابن قتیبة فی (الإمامة والسیاسة) ص11:
و ذکروا أن علیاً أتی أبوبکر و هو یقول: أنا عبدالله و أخو رسوله.
فقیل له: بایع أبوبکر.
فقال:
أنا أحق بهذا الأمر منکم.
لا أبایعکم، و أنتم أولی بالبیعة لی.
أخذتم هذا الأمر من الأنصار و احتججتم علیهم بالقرابة من النبی (صلی الله علیه و آله و سلم)
و تأخذونه من أهل البیت غصباً؟؟
ألستم زعمتم للأنصار أنکم أولی بهذا الأمر لمکان محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) منکم؟؟ فأعطوکم المقادة، و سلَّموا إلیکم الإمارة؟
و أنا أحتجُّ علیکم بمثل ما احتججتم به علی الأنصار:
نحن أولی برسولالله (صلی الله علیه و آله و سلم) حیاً و میتاً.
فأنصفونا- إن کنتم تخافون- من أنفسکم.
فقال له عمر: أنت لست متروکاً حتی تبایع.
فقال له علیّ: إحلب حلباً لک شطره!!
اشدد له الیوم لیرده علیک غداً.
و الله یا عمر لا أقبل قولک و لا أبایعه.
فقال له أبوبکر: فإن لم تبایعنی فلا أُکرهک.
فقال علیّ: یا معشر المهاجرین الله! الله! لا تُخرجوا سلطان محمد فی العرب من داره و قعر بیته إلی دورکم و قعور بیوتکم، و تدفعوا أهله عن
مقامه فی الناس و حقه.
فو الله یا معشر المهاجرین! لنحن أهل البیت أحقّ بهذا الأمر منکم ما کان فیه القاریء لکتاب الله، الفقیه فی دین الله، العالم بسنن رسولالله…).
هذا ما یرویه ابن قتیبة فی کتابه (الإمامة والسیاسة).
و أما ما یرویه العیاشی فی تفسیره 2/ 67:
«… أخرجوه من منزله ملبّباً، و مرّوا به علی قبر النبی (صلی الله علیه و آله و سلم) فقال: (یا بن أم إن القوم استضعفونی و کادوا یقتلونی) فقال له عمر: بایع.
قال علیّ: فإن أنا لم أفعل فَمَه؟
قال له عمر: إذن و الله أضرب عنقک!
قال علیّ: إذن- و الله- أکون عبدالله المقتول و أخا رسولالله.
و فی روایة: إذن و الله تقتلون عبدالله و أخا رسولالله.
فقال عمر: أما عبدالله فنعم، و أما أخو رسولالله فلا.
و فی روایة: و أما أخو رسولالله فما نقر لک بهذا.
فقال (علیهالسلام): أتجحدون أن رسولالله (صلی الله علیه و آله و سلم) آخی بینی و بینه؟
قال: نعم.
و جری- هناک- حوار شدید و کلام طویل بین خلیفه رسولالله علیّ (علیهالسلام) و بین تلک الزمرة.
و عند ذلک وصلت فاطمة إلی المسجد، و قد أخذت بید ولدیها: الحسن و الحسین، و ما بقیت هاشمیة إلاَّ و خرجت معها، فنظرت السیدة فاطمة إلی زوجها أبیالحسن و هو تحت التهدید بالقتل، فأقبلت تعدو
و تصیح: خلّوا عن ابن عمّی!!
خلّوا عن بعلی!! و الله لأ کشفن عن رأسی و لأضعنَّ قمیص أبیعلی رأسی و لأدعونَّ الله علیکم.
و فی روایة: فوالذی بعث محمداً بالحق لئن لم تخلوا عنه لأنشرن شعری و لأضعنَّ قمیص رسولالله (صلی الله علیه و آله و سلم) علی رأسی، و لأصرخن إلی الله تبارک و تعالی، فما ناقة صالح بأکرم علی الله منی. و لا الفصیل بأکرم علی الله من ولدیِ(13)
و فی روایة العیاشی: قالت: یا أبابکر أترید أن ترملنی من زوجی؟ والله لئن لم تکفّ عنه لأنشرنَّ شعری، و لأشقنَّ جیبی، و لآتین قبر أبی، و لأصیحنَّ إلی ربی!!فأخذت بید الحسن و الحسین و خرجت ترید قبر النبی (صلی الله علیه و آله و سلم).
و فی روایة أخری: قالت: ما لی ولک یا أبابکر؟ ترید أن تُؤتم ابنیّ، و ترملنی من زوجی؟
و الله لو لا أن تکون سیئة لنشرت شعری و لصرخت إلی ربی.
فقال رجل من القوم – لأبی بکر-: ما ترید إلی هذا؟أی ما تقصد بهذا الفعل؟ أترید أن تنزّل العذاب علی هذه الأمة؟
فقال علیّ لسلمان: أدرک ابنة محمد….
أقبل سلمان و قال: یا بنت محمد إن الله بعث أباک رحمة فارجعی!
فقالت: یا سلمان یریدون قتل علی!! ما علیَّ صبر، فدعنی حتی آتی قبر أبی فانشر شعری، واشق جیبی و اصیح إلی ربی.
فقال سلمان: انی أخاف ان یخسف بالمدینه، و علی بعثنی الیک یأمرک ان ترجعی الی بیتک و تنصرفی.
فقالت (علیهاالسلام): إذن ارجع و اصبر، و اسمع له و اطیع(14)
و فی کتاب (احتجاج الزهراء) للرضوی النجفی ص 140: فأقبل علی مهرولاً الی السیده فاطمه، فلما وصل إلیها جعلت فاطمه تقبل أکتافه و تقول له- بدموع جاریه-:
«روحی لروحک الفداء، و نفسی لنفسک الوقاء، یا أباالحسن ان کنت فی خیر کنت معک، و انت کنت فی شر کنت معک».
و خلاصه الحدیث ان السیده فاطمه ما رجعت إلی البیت إلا و أخذت زوجها معها و أنقذته من تلک الزمره، و خلصته من أخذ البیعه منه.
1) هو الامام الفقیه أبومحمد عبدلله بن مسلم بن قتیبه الدینوری، من علماء القرن الثالث الهجری، و من ائمة الأدب و النحو و التاریخ، ولد ببغداد سنة 213 هـ و توفی سنة 276 هـ. له کتب کثیره، و من اشهرها هو هذا الکتاب المعروف بتاریخ الخلفاء و قد طبع عده مرات فی مصر و العراق و لبنان.
2) و فی نسخه: ردائی.
3) و فی نسخه: و لم تروا.
4) هو الامام الفقیه محمد بن عبدالکریم الشهرستانی، الشافعی المذهب، من علماء القرن السادس الهجری، و له کتب کثیره، و من اشهرها: کتاب الملل و النحل، و قد طبع عده مرات فی مصر و لبنان و العراق و غیرها.
5) الملل و النحل، الباب الاول، الفرقه النظامیه ص 83.
6) الاحتجاج 137 والبحار ج 43.
7) تلابیب- جمع تلبیب- و هو موضع الطوق و القلاده من الصدر، یقال: أخذ بتلابیبه أی: أمسکه متمکناًمنه.
8) و جا: عصر و ضرب.
9) فکاثروه أی: اجتمعوا علی الإمام (علیهالسلام).
10) الدملج:السوار فی المعصم.
11) و العجب: ان معاویه یشمت بالإمام علی (علیهالسلام) بهذه المأساه و یکتب إلیه: و تقاد إلی کل منهم کما یقاد الجمل المخشوش حتی تبایع کارهاً…الی آخر کلامه/ شرح ابن أبیالحدید ج 4. فأجابه الإمام (علیهالسلام)… و قلت: إنی کنت أقاد کما یقاد الجمل المخشوش حتی أبایع، و لعمر والله لقد أردت أن تذم فمدحت، و ان تفضح فافتضحت، و ما علی المسلم من غضاضه فی أن یکون مظلوماً، لم یکن شاکاً فی دینه، و لا مرتاباً بیقینه، و هذه حجتی إلی غیرک قصدها، و لکنی أطلقت لک بقدر ما سنح من ذکرها… الی آخر کلامه (علیهالسلام)/ نهج البلاغه باب کتبه (علیهالسلام).
12) أی انطبقت السماء علی الأرض. و الحدیث فی بحارالأنوار ج 43.
13) بحارالأنوار ج 43/ تاریخ الیعقوبی/ الاحتجاج للطبرسی.
14) بیت الأحزان للقمی ص 87.
