أسفی علیها.
أسفی علی شبابها.
أسفی علی آلامها.
أسفی علی قلبها المتوقد الملتهب.
أسفی علی خاطرها المنکسر.
صارت طریحة الفراش، أخذ المرض و الهزال منها کل مأْخذ.
و استولی الذبول علی تلک الزهرة الزهراء.
إنها لا ترجو العلاج و الدواء، و لا تأمل فی البقاء.
إنها تنتظر الموت، تنتظر التخلص من هذه الحیاة.
تتمنی أن تلتحق بأبیها الرسول.
لقد اقتربت شمسها نحو الغروب.
لقد کادت شمعة الرسول أن تنطفیء.
لقد ضاقت الدنیا و ضیقت علیها.
تنظر إلی زوجها العظیم، جلیس الدار، مسلوب الإمکانیات، مغصوباً حقه.
وتنظر إلی أملاکها قد صودرت، و إلی أموالها قد غصبت.
استغاثت فلم یغثها أحد، و استنصرت فلم ینصرها أحد.
منعوها عن البکاء علی أبیها رسولالله (صلی الله علیه و آله و سلم) أشرف الأباء.
و عن الامام الباقر (علیهالسلام) انه کان من دعائها فی شکواها: «یا حی یا قیوم برحمتک أستغیث فأغثنی، أللهم زحزحنی عن النار و أدخلنی الجنة و ألحقنی بأبی محمد.
فإذا قال لها أمیرالمؤمنین: عافاکِ الله و أبقاکِ. تقول: یا أباالحسن ما أسرع اللحاق برسولاللهِ(1)
و عن الإمام زین العابدین عن أبیه الحسین (علیهماالسلام) قال: لما مرضت فاطمة بنت رسولالله (صلی الله علیه و آله و سلم) وصَّت إلی علیّ بن أبیطالب (علیهالسلام) أن یکتم أمرها و یخفی خبرها، و لا یؤذن أحداً بمرضها، ففعل ذلک، و کان یمرّضها بنفسه و تعینه علی ذلک أسماء بنت عمیس علی استسرار بذلک…. الی آخرالحدیث(2)
یستفاد من هذا الحدیث مدی تألُّم السیدة فاطمة الزهراء من ذلک المجتمع الذی عرفت موقفه تجاه بنت رسولالله (صلی الله علیه و آله و سلم) فقد یکون الاستیاء عمیقاً، فی النفس کالجرح الغائر فی البدن الذی یطول بُرؤُه أو لا یبرأ علی مرّ الزمان.
و هکذا یزهد الإنسان المتألِّم فی المجتمع، و یختار الاعتزال عنهم، و بعد أن کان یستأنس بهم صار لا یحب الالتقاء بهم و التحدث معهم.
و إنما یدرک هذه الحالة کل من رأی الجفاء و القساوة من أقاربه أو أصدقائه أو مجتمعه، فإنه ینزعج حتی من رؤیتهم فکیف بالتحدث و المجالسة معهم، و قد یبلغ الأمر بالإنسان أن یملّ الحیاة و یفضّل الموت کی یستریح من الحیاة التی یعیشها مع أهل الجفاء و القسوة.
إختارت السیدة فاطمة زوجها العظیم لیقوم بتمریضها، و لا أعلم کیفیة تمریض الإمام إیاها، فهل کان الإمام یصنع لها طعاماً یلیق بالمرضی، أو یتولی هو أُمور بیته بنفسه؟
و علی کل تقدیر، فقد کانت لأسماء بنت عمیس شرف التعاون فی تمریض السیدة فاطمة، و لعل السبب فی انتخابها لهذه المهمة هو أنّه کانت العلاقات بین السیدة فاطمة الزهراء (علیهاالسلام) و بین أسماء بنت عمیس وُدیّة و طیبة للغایة، إلی درجة أنها کانت تعتبر نفسها من أُسرة بنیهاشم، و خاصة و أنها کانت زوجة لجعفر بن أبیطالب.
و کانت هی بالذات إمرأة عاطفیة، تؤمن بالوفاء و الإنسانیة، و تقدر الحقوق لأهلها. و تلتزم بالقیم و المفاهیم العلیا.
و یستفاد من مطاوی التاریخ أنها کانت- بالإضافة إلی ذکائها الوافر و عقلها الوقاد- حسنة الأخلاق، طیبة المعاشرة، و کانت السیدة فاطمة الزهراء تبادلها نفس الحب و المودة و الشعور.
و لما قُتل جعفر بن أبیطالب فی غزوة مؤتة و بلغ رسولالله الخبر بکی (صلی الله علیه و آله و سلم) و بکت الصحابة، و وصل الخبر إلی حجرات الرسول فبکت الهاشمیات، و أقبل الرسول و دخل علی أسماء فدعی بأولاد جعفر و جعل یمسح علی رؤُوسهم، و یشمهم و یضمهم إلی صدره، فأحست أسماء بالشر و قالت: یا رسولالله هل بلغک شیء عن جعفر؟
فبکی الرسول و قال لها: احتسبی جعفراً فقد قُتل. فبکت و صاحت. و أقبل رسول الله إلی دار ابنته فاطمة و قال لها: إصنعی طعاماً لآل جعفر فإنهم مشغولون بالعزاء.
فعمدت السیدة فاطمة إلی الدقیق و عجنته و خبزت خبزاً کثیراً، و عمدت
إلی مقدار من التمر و أرسلت بالخبز و التمر إلی دار آلجعفر.
و الجدیر بالذکر أن الرسول لم یأمر إحدی زوجاته و لا سائر الهاشمیات بذلک فلعل السبب فی ذلک أن الرسول أراد أن یکون هذا الثواب الجزیل من نصیب ابنته فاطمة.
أو أن الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) اختار لها هذا العمل نظراً للعلاقات الطیبة و السوابق الحسنة و الخدمات الجمة التی أسدتها أسماء بنت عمیس إلی أهل بیت الرسول.
فلقد مرّ علیک أن أسماء حضرت عند السیدة خدیجة ساعة وفاتها، و أنها ساهمت فی التدابیر التی اتخذت فی زواج السیدة فاطمة الزهراء، بل و حضرت أسماء عند السیدة فاطمة ساعة ولادة الإمام الحسین، و قامت بدور القابله المولِّدة و ساعدْنها بعض النساء أیضاً.
و بالرغم من أنها تزوجت بأبیبکر بعد مقتل زوجها جعفر فإنها استمرّت علی ولائها، و لم تتغیر قید شعرة، و حتی بعد وفاة الرسول، و موقف أبیبکر تجاه أهل البیت کان موقفاً معروفاً.
و بالرغم من الحرب الباردة بین أهل البیت و بین السلطة المتمثلة فی أبیبکر فإن أسماء بنت عمیس لم تتأثر بعواطف زوجها، و تحدّت السلطة تحدّیاً لا تنقضی عجائبه.
فکیف کان أبوبکر یسمح لها بالذهاب إلی دار علیّ (علیهالسلام) لخدمة الزهراء و خدمة أولادها؟
و کیف لم یأمرها بقطع علاقاتها مع أهل البیت فی تلک الظروف الخاصة؟
و علی کل حال، فقد کانت السیدة فاطمة الزهراء تستأنس بأسماء و تنسجم معها و تسکن إلیها، و تبثُّ إلیها آلامها، و کأنها أختها، و کأنها
أحب الناس إلیها، و أقربهن إلی قلبها.
قالت لها السیدة فاطمة فی أواخر أیام حیاتها: کیف أصنع و قد صرت عظماً و قد یبس الجلد علی العظم؟
و فی روایة التهذیب عن أبیعبدالله (الصادق) (علیهالسلام) قال…… و قالت (فاطمة) لأسماء: إنی نحلت و ذهب لحمی، ألا تجعلین لی شیئاً یسترنی؟
قالت أسماء: إنی کنت بأرض الحبشة رأیتهم یصنعون شیئاً أفلا أصنع لکِ، فإن أعجبک أصنع لکِ؟
قالت: نعم.
فدعت (أسماء) بِسریر فأکبته لوجهه، ثم دعت بجرائد فشدتها علی قوائمه ثم جلَّلته ثوباً فقالت: هکذا رأیتهم یصنعون.
فقالت: اصنعی لی مثله، إسترینی سترک الله من النار.
و فی روایة الاستیعاب: فقالت فاطمة: ما أحسن هذا و أجمله لا تعرف به المرأة من الرجل.
و روی انها (علیهاالسلام)- لمارأت ما صورته اسماء- تبسمت، و ما رؤیت مبتسمه-بعد أبیها- إلا یومئذٍ.
1) دلائل الإمامه لابن جریر ص 43، بحار الأنوار ج 43 ص 217.
2) بحارالأنوار ج 43 عن مجالس المفید.