و بعد سنة واحدة و شهر وقعت غزوة أُحد، و قُتل فیها من أصحاب رسولالله (صلی الله علیه و آله و سلم) سبعون رجلاً کانوا هم الصفوة و الزبدة من أصحابه، و فی طلیعتهم عمّه سید الشهداء حمزة بن عبدالمطلب، و أُصیب رسولالله (صلی الله علیه و آله و سلم) بحجر إنکسرت منه جبهته الشریفة، و حجر أصاب فمه الطاهر و انکسرت منه ثنایاه، و تخثَّر الدم علی لحیته کأنه حِنّاء أو خضاب.
و فی تلک الآونة صاح إبلیس صیحة سمعها المسلمون فی أُحد، و سمعها أهل المدینة، صاح: (قُتل محمد).
اضطربت القلوب فی جبهة القتال، و انهزم المنهزمون، و ثبت المؤمنون حقاً، و لم یکن إضطراب العوائل فی المدینة بأقل من إضطراب المسلمین فی ساحة القتال.و قد خرجت صفیة بنت عبدالمطلب (عمة النبی) و فاطمة الزهراء إلی احد، فصاحت فاطمة، و وضعت یدها علی رأسها.
و خرجت تصرخ، و خرجت کل هاشمیة و قریشیة، واضعة یدها علی رأسها.
و کان وصول فاطمة الزهراء وصفیة إلی أُحد بعد أن وضعت الحرب أوزارها، و بعد أن قُتل من قُتِل، و جُرحَ من جُرح، و کان النبی یتفقد القتلی و یبحث عن المفقودین من أصحابه.
و هو إذ ذاک قد وصل إلی مصرع حمزة، فوجده بحالة لا توصف،
فقد مثّلوا به أبشع و أقبح مُثلة، فقد قطعوا أصابع یدیه و رجلیه، و جدعوا أنفه و أذنیه و شقّوا بطنه، و أخرجوا کبده، و ترکوه بهذه الحالة.
کان هذا المنظر المشوَّه مؤلماً و محزنا و مخدشاً لقلب الرسول، إذ هو نکایة و تنکیل من المشرکین لعمِّ رسولالله (صلی الله علیه و آله و سلم) و ناصره و المدافع عنه.
کان الحزن و الغیظ قد أخذ من الرسول کل مأْخذ، فبینما هو کذلک و إذا به یری عمَّته صفیة وابنته فاطمة قد توجَّهتا نحو تلک المنطقة، فغطی الرسول جثمان حمزة بردائه، و ستَرَه من القرن إلی القدم کی لا یُری شیء من مواضع المثلة.
و أقبلت صفیة و فاطمة تعدُوان، و جلستا عند مصرع حمزة، و شرعتا بالبکاء والنحیب، و رسولالله یساعدهما علی البکاء، و یشارکهما فی الأنین والنحیب، ثم نظرت فاطمة إلی جراحة جبهة الرسول، و إلی الدماء المتخثرة علی وجهه الطاهر و لحیته الشریفة، فصاحت و جعلت تمسح الدم و تقول: اشتدّ غضب الله علی من أَدمی وجه رسولالله.
فغسلت الدماء عن وجه أبیها، و کان علی یصبّ الماء بالمجن(1)
فلما رأت فاطمة أنَّ الماء لا یزید الدم إلاَّ کثرة عمدت إلی قطعة حصیرة فأحرقتها، و جعلت رمادها ضماداً علی جبهة أبیها، و ألزمته الجرح، فاستمسک الدم.
أتری کیف انقضت تلک الساعات علی قلب فاطمة؟
فقد تداخلها الحزن العظیم و الخوف الشدید و هی البنت البارَّة بأبیها، العارفة بحقه.
و لما رجع علی (علیهالسلام) من احد ناولَ فاطمة سیفه، و قال:
خذی هذا السیف، فلقد صدقنی الیوم، و أنشأ یقول:
أفاطم هاکِ السیف غیر ذمیمِ++
فلستُ برعدیدٍ، و لا بلئیم
لعمری لقد أعذرتُ فی نصر أحمد++
و طاعة ربٌ بالعباد علیم
أُرید ثواب الله لا شیء غیره++
و رضوانه فی جنة و نعیم
و کنتُ إمرءاً یسمو إذ الحرب شمُّرت++
و قامت علی ساق بغیر ملیم
اممت ابن عبدالدار حتی جرحته++
بذی رونق یفری العظام صمیم
فغادرته بالقاع فارفضَّ جمعه++
عبادید مما قانط و کلیم
و سیفی بکفّی کالشهاب أهزُّه++
أحزُّ به من عاتقِ و صمیم
فما زلت حتی فضَّ ربی جموعهم++
و أشفیت منهم صدر کل حلیم
أَمیطی دماء القوم عنه فإنه++
سقی آلعبد الدار کأْس حمیم
فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): خذیه یا فاطمة فقد أدَّی بعلک ما علیه، قتل الله صنادید قریش بیدیهِ.
أیها القاریء الکریم: لقد مرَّ علیک أن السیدة فاطمة الزهراء (علیهاالسلام) حضرت فی أُحد، بعد أن وضعت الحرب أوزارها، و لما نظرت إلی جراحة أبیها غسلت الدماء بالماء، و أحرقت قطعة حصیرة و جعلت رمادها علی جبهة أبیها الرسول.
هذه الواقعة کما ذکرها المؤرخون.
و لکن فی زماننا- هذا- جاءت طائفة من الناس، واعتبروا هذه الواقعة ساحةً لمسرحیاتهم الشاذة، فکتبوا بکل إصرار و إلحاح و تکرار أن فاطمة کانت تحضر جبهات القتال و تضمِّد الجرحی، و تداویهم و تسعفهم!!
أنا ما أدری ما یقصد هؤلاء الشواذ من إختلاق هذه الأکذوبة؟
إذا قامت سیدة بتضمید جراحة أبیها فقط و فقط فی العمر مرة واحدة بعد انتهاء القتال هل یقال عنها: انها کانت تحضر جبهات القتال و تضمد
الجرحی و تداویهم؟؟
أنا ما أدری ما هدف هؤلاء من ترویج هذا الباطل و إشاعة هذا الافتراء؟
هل یریدون المسَّ بقدسیَّة السیدة فاطمة الزهراء و نزاهتها؟
أمیریدون فتح الطریق للاختلاط بین الجنسین.
و لنفرض أن نسیبة بنت کعب حضرت یوم اُحد لتضمید الجرحی فهل معنی ذلک أن نعتبر السیدة فاطمة الزهراء- و هی سیدة نساءالعالمین فی العفاف و الحیاء و الحشمة و النزاهة و العصمة نعتبرها کالموظفات فی المستشفیات و المستوصفات و مؤسَّسات الإسعاف الدولیة؟؟
أنا ما أدری، و لعلهم یدرون و یعرفون ما یبرِّر لهم هذه الأکذوبة!.
1) المجن: الترس.