إلی هنا أنهت السیدة فاطمة الزهراء (علیهاالسلام) حدیثها عن فلسفة الإسلام، و عن علل الشریعة الإسلامیة، ثم عرّجت علی کلامها المقصود و هدفها المنشود، و هو المطالبة بحقها و التظلم من السلطة الحاکمة.
و قبل کل شیء و جّهت الخطاب إلی الشعب الحاضر فی المسجد، فی المؤتمر الإسلامی لأنهم بایعوا رئیس الدولة، و لم توجّه الخطاب إلی رئیس الدولة لأنه هو أحد طرفی المحاکمة، و هو المقصود بالمخاصمة و الإدانة، و لهذا عرّفت نفسها للحاضرین کما هی الأصول المتبعة فی المحاکمات و لأنها الطرف الآخر للمحاکمة، و لأنها تمثّل آلرسولالله (صلی الله علیه و آله و سلم) و عترته الطیبین بل هی ملکة الإسلام، و المحاکمة وقعت بمحضر من المهاجرین و الأنصار و غیرهم، و هم یومذاک من الشخصیات الإسلامیة البارزة المرموقة و من الوزن الثقیل.
و موضوع المحاکمة هی الأراضی و المقاطعات التی کانت تحت تصرّف السیدة فاطمة الزهراء منذ سنوات، ثم استولی علیها ابوبکر و صادرها بدون مبرر شرعی، و لهذا و جّهت السیدة فاطمة الزهراء کلامها إلی الحاضرین فی ذلک المؤتمر، فقالت:
«أیها الناس إعلموأنی فاطمه» ذکرت إسمها للمستمعین، ذلک الإسم الذی لایجهله أحد، ذلک الإسم الذی سمعه الناس مراراً و تکراراً من فم الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) مشفوعاً بالعواطف النبویه،
مقروناً بکل تجلیل و تعظیم و تقدیر.
و هذه الکلمه: «اعلمو انی فاطمه» تشتمل و تحتوی علی عشرات الصفحات من الشرح.«و أبی: محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)» هذا النسب الشریف الأرفع، النسب الذی لیس فوقه نسب، النسب الذی هو مفخرة الکون، و درّة تاج الوجود، و أشهر من الشمس.
نعم، إن فاطمة هی بنت محمد، سید الأنبیاء، أشرف الخلائق، أطهر الکائنات، أفضل المخلوقین.
نعم، بنت هذا العظیم تتکلم و تخطب. و تحتج و تتظلم.
لقد عرّفت نفسها لئلا یقول قائل: ما عرفناها، و لماذا ما صرّحت باسمها؟ و لماذا لم تعرّف شخصها؟ و لماذا لم تذکر نسبها؟
و بهذا أتمّت الحجة، و لم تُبق لذی مقال مقالاً، ذکرت اسمها الصریح و نسبها الواضح تعریضاً و توبیخاً لهم.
نعم، إن فاطمة بنت محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) جاءت تطالب بحقوقها و أموالها التی صودرت و غصبت منها.
«أقول عوداً و بدءاً» أی أتکلم آخراً و أولاً، و أولاً و آخراً، و أنا علی یقین بما أقول.
و فی نسخة: «عَوداً علی بدء» و المعنی واحد.
«و لا أقول ما أقول غلطاً» و هو الخطأ فی الکلام من کذب و خدیعة و مغالطة.
«و لا أفعل ما أفعل شططاً» لا أتکلم جوراً و ظلماً و تجاوزاً عن الحد.
«لقد جاءکم رسول من أنفسکم عزیز علیه ما عنتم حریص علیکم
بالمؤمنین رؤوف رحیم» افتتحت هذا البحث بذکر أبیها الرسول (صلی الله علیه و آله وسلم) و أدمجت کلامها بکلام الله تعالی، و معنی الآیه: ان الرسول من العرب،یشق و یعزّ علیه و قوعکم فی الشدّة لأجله، حریص علی توفیر وسائل السعادة لکم، بالمؤمنین من هذه الأمة رؤوف رحیم، کلمتان مترادفتان، معناهما العطف و اللطف و الحنان.
«فإن تعزوه و تعرفوه» أی تنسبوه، و تقولوا فیه إنه أبومَن؟ و أخو مَن؟ و فی نسخة: «فإن تعزروه و توقروه» أی تعظموه.
«تجدوه أبیدون نسائکم» نعم، أنا ابنته الوحیدة، و هو أبی، و لا تشارکنی نساؤکم فی هذا النسب الطاهر الأعلی.
«و أخا ابن عمی دون رجالکم» نعم، إنه أخو زوجی، و لم یشارک أحد من رجالکم أبی فی الأخوة و لیس المقصود- هنا- أخوّة النسب، بل الأخوّة التی حصلت یوم المؤاخاة حینما آخی رسولالله (صلی الله علیه و آله و سلم) بین أصحابه، آخی بینه و بین علیّ، و کان الرسول ینوّه بهذه الأخوة فی شتی المناسبات و مختلف المجالات، و یرکّز علی کلمة: (أخی) کقوله (صلی الله علیه و آله و سلم): ادعوا لی أخی، و أین أخی؟ و أنت أخی، و إنه أخی فی الدنیا و الآخرة.
و کان علیّ (علیهالسلام) یعتزّ بهذه الأخوة و المؤاخاة، و یذکرها نظماً و نثراً، و منه قوله (علیهالسلام):
أنا أخو المصطفی لا شک فی نسبی++
معه ربیت، و سبطاه هما ولدی
و قوله:
محمد النبی أخی و صنوی++
و حمزة سید الشهداء عمی
و قوله:
و مَن حین آخی بین من کان حاضراً++
دعانی و آخانی و بیّن من فضلی
و قوله: أنا عبدالله و أخو رسولالله، و أنا الصدّیق الأکبر و الفاروق الأعظم لا یقوله غیری إلاّ کذابِ(1)
«و لنعم المعزّی إلیه (صلی الله علیه و آله و سلم)» نِعم المنسوب إلیه و المنتمی إلیه، أنه أشرف من ینتسب إلیه، و أطهر من ینتمی إلیه، لأنه علة الإیجاد، و بیُمنه رُزق الوری.
«فبلّغ الرسالة صادعاً بالنذارة» بلّغ الرسول کل ما أُمر بتبلیغه مظهراً بالإنذار و التخویف بعذاب الآخرة.
«مائلاً عن مدرجة المشرکین» و فی نسخة: «ناکباً عن سنن مدرجة المشرکین» أی عدل عن طریقة المشرکین و مسلکهم.
«ضارباً ثبجهم» أی کان الرسول ضارباً کواهل المشرکین و ظهورهم، و المقصود جهاد الکفار و المشرکین.
«آخذاً بأکظامهم» أی ممسکاً علی أفواههم، أو مخارج أنفاسهم، و هی کنایة عن إیقافهم عند حدّهم، و إحباط مؤامراتهم، و تفنید أباطیلهم.
«داعیاً إلی سبیل ربه بالحکمة و الموعظة الحسنة» کان یدعو إلی الله، لا إلی الدنیا، إلی سبیل ربه، لا سبیل غیره، و یراعی فی دعوته مستویات الناس، فیدعو بالحکمة و هی المقالة الموضحة للحق و المزیحة للشبهة، هذا بالنسبة للطبقة الواعیة المثقفة، و یدعو بالموعظة الحسنة و هی الخطابات المقنعة للنفوس، و العبر النافعة للحیاة، و هذا بالنسبة للطبقة العامة.
و یجادلهم بالتی هی أحسن، و هی أحسن طرق المجادلة و التفاهم، و إقامة الأدلة و البراهین بالنسبة للمعاندین.
«و یکسر الأصنام» التی کان المشرکون یعبدونها و یعتبرونها آلهة من دون الله.
«و ینکت الهام» و فی نسخة: «ینکس الهام» إشارة إلی قتال رؤساء الکفر، و أقطاب الشرک و قمعهم و إذلالهم، و هم الذین کانوا یؤججون نیران الحروب، و یثیرون الفتن أمثال: شیبة و عتبة و أبیجهل و نظرائهم، أو إذلال المفسدین و المشاغبین، و فی نسخة: «ینکث الهام» أی یلقی الرجل علی رأسه.
«حتی انهزم الجمع و ولّوا الدبر» أی استمر الکفاح و الجهاد سنوات عدیدة، تتکون خلالها الحروب و الغزوات و الاضطرابات حتی قضی الرسول علی أصول الفتن و جراثیم الفساد فانکسرت شوکة الکفار، و ضعفت معنویاتهم، و أخیراً حتی انهزم الجمع، أی جماعة الکفار و أدبروا فارّین.
«حتی تفرّی اللیل عن صبحه» حتی انجلت ظلمات الکفر السوداء، و تجلی صبح الإسلام الأبیض الناصع.
«و أسفر الحق عن محضه» أی ارتفعت الحواجز الباطلة التی حجبت الحق عن الظهور، فأضاء الحق الخالص الذی لا یشوبه شیء من الباطل، و کلها کنایات عن تجمّع القوی الدینیة.
«و نطق زعیم الدین» تکلم رئیس الدین فیما یتعلق بأمور الدین و أمور المسلمین بکل حریة و صراحة.
«و خرست شقاشق الشیاطین» قد ذکرنا فی شرح ألفاظ الخطبة أن الشقاشق- جمع شقشقة- شیء یشبه الرئة یخرج من فم البعیر عند هیجانه، و المقصود من (خرست شقاشق الشیاطین) هو تبخّر نشاطات المفسدین، و اختناق أصواتهم.
«و طاح و شیظ النفاق» المقصود سقوط المنافقین عن الاعتبار، و فشل مساعیهم.
«و انحلت عُقَد الکفر و الشقاق» أی فشلت المحاولات و المحالفات و الاتفاقیات التی قام بها الکفار و المخالفون ضد الإسلام و المسلمین کما فی غزوة الأحزاب.
«و فُهتم بکلمة الإخلاص» و تلفظتم بکلمة: (لا إله إلا الله) بألسنتکم.
«فی نفر من البیض الخماص» أی بیض الوجوه من النور، الضامری البطون من التجوع بسبب الصوم. أو الزهد.
و یمکن أن یکون المقصود من هذین الوصفین أُناساً معیّنین، و هم الصفوة من أصحاب النبی (صلی الله علیه و آله و سلم) أو أهل البیت (علیهمالسلام).
«و کنتم علی شفا حفرة من النار» بسبب الکفر و الشرک بالله العظیم.
ثم أشارت (علیهاالسلام) إلی الحیاة الاجتماعیة التی کان الناس یعیشونها فی ذلک الوقت و هی الفوضویة و اختلال النظام، و الهرج الذی کان مستولیاً علی کافة جوانب الحیاة، فقالت: «مذقة الشارب» إذا مرّ الإنسان الضمآن من مکان، و وجد ماءًاً لیس له مالک، أو له مالک و لکنه لا یستطیع الدفاع و المقاومة فانه یطمعٍ أن یشرب من ذلک الماء و یبرّد غلیله.
«و نهزة الطامع» و هکذا إذا مر الإنسان من مکان و وجد هناک طعاماً لا مالک له، أو مالکه ضعیف فتری الجائع یطمع فی ذلک الطعام. فینتهز الفرصة و یستوفی نصیبه من ذلک الطعام.
«و قبسة العجلان» هی الشعلة أو الجذوة من النار یأخذها الرجل المسرع إذا احتاج إلیها.
«و موطئ الأقدام» و کنتم أذلاّء، مستضعفین تدوسکم الأقوباء بأقدامها.
«تشربون الطرق» الماء الذی کنتم تشربونه هو الماء المتجمع فی
المستنقعات و الحفائر تدخلها الحیوانات، و تبول فیها الإبل، مع العلم أن النفوس الشریفة تستقذر هذا الماء و تمجّه، و لا ترضی به، و لکنه الجهل، و لکنه الاحساس بالنقص، و الخضوع للمذلة و الهوان، کأنهم لم یعرفوا حفر الآبار، أو تفجیر العیون، أو إیجاد القنوات تحت الأرض و لا تسأل عن مضاعفات هذه المیاه و تلوثها بأنواع الجراثیم، و المیکروبات.
هذا و لا تزال الحیاة بهذه الصفة موجودة فی بعض البلاد الإسلامیة المتأخرة عن رکب الدین والحضارة، کما تقرأ ذلک فی بعض الصحف و المجلات.
«و تقتاتون القدّ و الورق» أی کان قوتکم و طعامکم من القد و هو اللحم أو الجلد الیابس و أوراق الأشجار، فالأراضی الواسعة الشاسعة قاحلة جرداء، لا ضرع فیها و لا زرع و مفهوم الزراعة غیر موجود عندکم.
«أذّلة خاسئین» الخاسیءهو المنبوذ المطرود الذی لا یُترک أن یدنو من الناس لحقارته.
«تخافون أن یتخطفکم الناس من حولکم» إن التفسخ و الانحلال یؤدی إلی اختلال الحیاة الاجتماعیة و إلی الفوضویة و فقدان الأمن و الأمان، و سلب القرار و الاستقرار و الطمأنینة فی النفوس، فالقوی یطمع فی الضعیف، و الکثیر یأکل القلیل، و الغنی یستعبد الفقیر، فلا یخاف أحد من القانون، و لا یهاب العقاب،و لا یخشی السلطة.
و نحن نری أن حوادث الاختطاف و الاغتصاب و الإعتداء إنما تکثر فی البلاد التی لا یطبق فیها القانون علی الجمیع. و لا ینفذ إلا فی حق الفقیر الضعیف، فالدماء تراق و الأعراض تهتک، و الأموال تسلب، و الکرامات تُهدر، و هکذا و هلم جرّاً.
و قد اقتبست السیدة فاطمة الزهراء (علیهاالسلام) هذه الآیة من
القرآن(2) و أدمجتها فی حدیثها عن العهد الجاهلی.
«فأنقذکم الله بأبی (محمد) (صلی الله علیه و آله و سلم)» إنه المنقذ الأعظم و المصلح الأکبر الذی أنقذ العباد من تلک الحیاة التی کانت تشبه الجحیم، و أصلح البلاد من تلک المفاسد و الویلات و المصائب و أحدث انقلاباً فی العقائد و النفوس و الأخلاق و العادات.
و لم تتحقق أهدافه إلا:
«بعد اللتیّا و التی» هذه الکلمة صارت مثلاً فی هذه المناسبة، أی استطاع الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) أن یطهر المجتمع، و ینقذ الناس من مصائب الجاهلیة بعد شق الأنفس، بعد أن تحمّل المشاکل و أنواع الاذی، بعد الضغط و الکبت و الاضطهاد.
«و بعد أن مُنی بِبُهم الرجال» استطاع الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) إنقاذ الناس بعد أن ابتلی بالرجال الأقویاء، و الأبطال الشجعان الذین أججوا نیران الحروب، و حاربوا رسولالله (صلی الله علیه و آله و سلم) بکل ما یملکون من حول و قوة و هم أکثر عدداً من المسلمین، و أکثر عدّة و عتاداً.
«و ذُؤبان العرب» إن الإنسان إذا تجرّد عن الإنسانیة و الأخلاق و الفضیلة فانه ینزل إلی مرتبة الحیوانات، فإذا فقد الفهم و العلم فإنه یُشبَّه بالحمار، و إذا فقد العاطفة و الرأفة فإنه یُشبَّه بالسباع و الحیوانات المفترسة، فیصح أن یقال فی حقه: انه ذئب.
و هکذا أولئک السفاکون الذین کانوا یستأنسون بالمذابح و المجازر التی کانوا هم السبب فی تکوینها، أولئک الذین کانت هو ایاتهم إثارة الفتن
و إیجاد الإضطرابات، أمثال أبیجهل و أبیسفیان و من یدور فی فلکهما،
و قیل: المقصود من الذؤبان- هنا- اللصوص و الصعالیک، أی السفلة من الناس الساقطین.
إبتلی الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) بهؤلاء المفسدین، إبدأً من غزوة بدر إلی غزوة أحد إلی الخندق إلی حنین و غیرها، تجد هؤلاء المفسدین کانوا فی طلیعة أسباب الفتنة و الإضطرابات و المشاغبات، و حتی الحروب التی خاضها المسلمون مع الیهود کان هؤلاء هم السبب فی إثارتها.
«و مردة أهل الکتاب» إشارة إلی الحروب التی شبّ الیهود و النصاری نیرانها، أمثال: بنیالنضیر، و بنیقریظة، و بنیقینقاع، و بنیالأصفر فی مؤتة؛
إن أهل الکتاب- و هم الیهود و النصاری- لو کانوا یتبعون الکتاب السماوی الذی أنزل علیهم لما حاربوا الرسول؛ بل کانوا یسلمون علی یدیه فی المرحلة الأولی، لأن أوصاف الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) مذکورة فی کتبهم، و کان من السهل علیهم المقارنة بین تلک الصفات و العلائم و بین الرسول، و عند ذلک کانوا یجدون تلک الصفات تنطبق علی الرسول مائة بالمائة، و لکن مردة أهل الکتاب و هم العتاة المتجبرون الذین منعهم الکبریاء من الخضوع للحق استمروا علی عتّوهم و عنادهم و جحودهم.
«کلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله» کانوا یحیکون المؤامرات ضد الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) و یجمعون الجیوش و العساکر و یحضّون القبائل و العشائر علی محاربة الرسول، فکانت المساعی فاشلة، و کان الإنتصار و الغلبة و الظفر حلیفاً للرسول.
و لو استعرضنا تاریخ حیاة الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) منذ
البعثة حتی الوفاة لظهر لنا جانب کبیر من إحباط المؤامرات و الفشل الذریع الذی أحاط بأعداء الرسول.
«أو نَجَم قرن للشیطان» لو انکسر قرن الحیوان نبت له قرن آخر، و تقول السیدة فاطمة الزهراء (علیهاالسلام): إذا نهض أحد المفسدین للقیام بالأعمال الشیطانیة، و هی المعاکسات و المقاومات التی کان المشرکون یقومون بها ضد رسولالله.
وهذه الجملة عطفٌ علی جملة: «کلما أوقدوا» أی کلما نجم قرن للشیطان أو «فغرت فاغرة» أو فتحت حیة الکفر فمها لتلسع و تلدغ المجتمع الإسلامی.
«قذف أخاه فی لهواتها» أی کان الرسول یقضی علی تلک النشاطات الجهنمیة، و النعرات الشیطانیة، یقضی علیها بأخیه علیّ بن أبیطالب (علیهالسلام).
کان الرسول یأمر علیاً أن یردّ عنه کتائب المشرکین و عصابات المنافقین فکان علیّ (علیهالسلام) یخاطر بحیاته، و یغامر بنفسه، و یستقبل أولئک الذئاب المفترسة، کان یقاتلهم وحده، و یخوض غمار الحرب، فیصح التعبیر بقولها: «قذف أخاه فی لهواتها» فی فم الموت بین أنیاب السباع تحت سیوف الأعداء، و الرماح الشارعة و السهام الجارحة.
«فلا ینکفیء حتی یطأ صماخها بأخمصه» لا یرجع علیّ (علیهالسلام) من جبهة القتال حتی یسحق رؤوس الأعداء، و یدوس هامات الرؤساء بباطن قدمه، کالمصارع الذی ینزل إلی ساحة المصارعة فإذا تغلّب علی خصمه و صرعه فلا بدّ من أن یلصق المصارع ظهر خصمه أو رأسه علی الأرض لیثبت أنه أنهی المصارعة بأوفی صورة.
کذلک علیّ (علیهالسلام) کان یهرول نحو الأعداء لا یعرف معنی
للخوف، و کأنه مستمیت، و کأنّ غریزةحب الحیاة قد سُلبت عنه، و بیده صحیفة یقطر منها الموت، تراها راکعة ساجدة، علی الرؤوس، و الخواصر و کان یقدّ الأبدان نصفین طولاً أو عرضاً، و یفری و یکسر و یهشم فی طرفة عین، و قبل أن تنفجر الدماء من العروق کانت العملیة قد انتهت.
«و یخمد لهبها بسیفه» کان یقضی علی جراثیم الفساد، و یقلع الأشواک عن طریق المجتمع البشری، و یطفیء لهیب الحروب بسیفه السماوی، و یمهّد الطریق لکلمة: (لا إله إلا الله محمد رسولالله).
«مکدوداً فی ذات الله» قد أخذ التعب و العناء منه کل مأخذ، کل ذلک لله و فی الله و لوجه الله و فی سبیل الله.
«مجتهداً فی أمر الله» المجتهد- فی اللغة- الذی یجهد نفسه أی یتعبها، کان علیّ (علیهالسلام) یبذل ما فی وسعه و طاقته و جمیع إمکانیاته لتحقیق أهدافه السامیة، و تحصیل أمنیاته، و هی إعلاء کلمة الله.
«قریباً من رسولالله» لیس المقصود القرب المکانی، بل القرب المعنوی، من حیث قرابة النسب، و انسجام الروح، و اندماج النفس و اتحاد الإتجاه، و وحدة النفس، فعلیّ (علیهالسلام) نفس الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) بنص القرآن الکریم بقوله تعالی: «و أنفسنا و أنفسکم» و هل هناک قرابة أو نسب أقوی وأقرب من هذا؟
«سیداً فی أولیاء الله» و فی نسخة: «سید أولیاء الله» فیکون المقصود هو رسولالله (صلی الله علیه و آله و سلم).
«مشمّراً ناصحاً، مجدّاً کادحاً» هکذا تصف السیدة فاطمة الزهراء (علیهاالسلام) زوجها العظیم، کأنه یشمّر عن ثیابه نشاطاً و استعداداً للعمل للإسلام و لصالح الإسلام، فی سبیل إسعاد المسلمین. و بذل النصح، و هو حب الخیر لهم، کان مجداً فی العمل، ساعیاً فیه، لا یمنعه التعب عن
استمرار العمل.
نعم، کانت حیاة الإمام أمیرالمؤمنین (علیهالسلام) کلها جهوداً و جهاداً، و نشاطاً و إنتاجاً و إنجازاً و خدمة للإسلام و المسلمین، فمواقفه فی جبهات القتال مشهورة، و أعماله الفدائیة فی سبیل الإسلام مذکورة، و تفانیه و تضحیاته فی سبیل الله معروفة.
«و أنتم فی رفاهیة من العیش و ادعون فاکهون آمنون» کان علیّ (علیهالسلام) یستقبل الأخطار و الأهوال فی الوقت الذی کان المسلمون بعیدین عن تلک الأخطار، مشغولین بأنفسهم یتمتعون بالراحة، و یتفکرون فی تحصیل الملذات، و إشباع الرغبات، لا یعرفون معنی الخوف.
أین کان المسلمون لیلة المبیت؟ تلک اللیلة التی طوّق المشرکون دار رسولالله (صلی الله علیه و آله و سلم) و هم یریدون الهجوم علیه لیقتلوه؟ أما بات علیّ (علیه السلام) علی فراش رسولالله (صلی الله علیه و آله و سلم) یفدیه بنفسه و حیاته و شبابه؟!
أین کان المسلمون یوم أحد حین انهزموا و ترکوا الرسول فی جبهة القتال، تحمل علیه عصابات الکفار و المشرکین؟ و بقی علیّ (علیهالسلام) یقاوم الأعداء حتی ضرب الرقم القیاسی فی المواساة و التضحیة، حتی هتف جبرئیل بفُتَّوته و بسالته یوم هتف بین الأرض و السماء: لا فتی إلا علیّ لا سیف إلا ذو الفقار.
و هکذا یوم حُنین، و هکذا یوم الخندق، و هکذا یوم خیبر. و هکذا و هلم جراً.
قال علیّ (علیهالسلام): «و لقد واسیته بنفسی فی المواطن التی تنکص فیها الابطال، و تتأخر فیها الأقدام، نجدة أکرمنی الله بها…».
«تتربصون بنا الدوائر» کان بعض أولئک الأفراد مندسین فی صفوف
المسلمین یتوقعون هلاک الرسول، و ینتظرون نزول المکاره و حلول الکوارث برسولالله، و الدوائر صروف الزمان، و العواقب السیئة، و تحوّل النعمة و زوالها و نزول البلاء.
«و تتوکفون الأخبار» تتوقعون وصول الأخبار الدالة علی هلاکنا.
«و تنکصون عند النزال، و تفرون من القتال» ففی یوم أُحد کانت المأساة من فرار المسلمین، و یوم حُنین کانت الفضیحة و یوم خیبر کان العار منطبعاً علی جبهات المنهزمین.
و لا تسأل عن یوم الخندق حین استولی الرعب علی القلوب، و الفزع علی النفوس حینما برز عمرو بن عبد ودّ، فکفی الله المؤمنین القتال بعلی (علیهالسلام).
هذا و لو أردنا استعراض الأحداث التاریخیة بهذا الشأن لطال بنا الکلام و خرج الکتاب عن أسلوبه.
و خلاصة القول: هذا موقف علیّ (علیهالسلام) تجاه الإسلام و الرسول، و هذه مواقف غیره من أولئک الشخصیات التی ظهرت شجاعتهم بعد وفاة الرسول! و برزت مواهبهم حین خلا لهم الجو، و ساعدتهم الظروف علی ما یحبون!.
1) راجع کتابنا (علی من المهد إلی اللحد) للمزید من المعلومات حول البحث.
2) و هی قوله تعالی: «و کنتم علی شفا حفرة من النار».